سفاح بوسطن يسلم نفسه !
في شهر مارس من سنة 1965، تقدم محام شاب يدعى "ف.لي بايلي" بعرض إلى إدارة شرطة مدينة بوسطن، نيابة عن موكله "ألبرت هنري دي سالفو" الذي كان محتجزا في مصحة نفسية بإنتظار إستئناف حكم بالسجن مدى الحياة بسبب إرتكابه لعدد كبير من جرائم الإغتصاب و التحرش الجنسي فيما عرف بجرائم "رجل القياسات" و "الرجل الأخضر"، وبموجب هذا العرض يعترف موكله بأنه "سفاح بوسطن" و يوقع إعترافا خطيا يروي فيه تفاصيل 11 جريمة من ضمن الجرائم الثلاثة عشرة المنسوبة إليه في مقابل عدم إستخدامها كدليل ضده. وفي سابقة من نوعها في تاريخ المباحث الأمريكية . إذ لم يسبق أن سلم قاتل متسلسل نفسه للعدالة و اعترف بجرائمه خاصة إن لم يكن مشتبها فيه من الأصل. فإسم "دي سالفو" لم يرد يوما في تقارير التحقيقات في قضايا "سفاح بوسطن" و لم يكن ليذكر إن لم يقدم "ألبرت"، الذي كان نزيل مصحة نفسية بأمر قضائي بسبب جرائمه الجنسية، على إعترافه المثير للجدل.
و لكن المحامي "بايلي" بنفسه أثبت بأن موكله قد روى له تفاصيل و معلومات متعلقة بجرائم "بوسطن" لا يمكن لغير القاتل معرفتها، و لتحري صدق "دي سالفو" فقد قدم المحققون لـ "بايلي" قائمة بخمس أسئلة عرفت "بالخمسة الكبار" ليطرحها على موكله، و كلها تتعلق بتفاصيل دقيقة من مسارح الجريمة، أجاب عليها "ألبرت" بدون تردد مؤكدا أنه "سفاح بوسطن" المرعب.
رحلة إدانة "دي سالفو"
كان "دي سالفو" بمثابة القشة الأخيرة التي تعلق بها عناصر فريق الشرطة المجند لحل لغز "سفاح بوسطن"، و أملهم الأخير في إنقاذ سمعتهم التي أصبحت محل تساؤل و تشكيك. و قد كلف المدعي العام أنذاك "إدورد بروك" صديقه و رئيس مكتب "التحقيق في جرائم السفاح" "جون بوتملي" بإستجواب "دي سالفو" بعد أن تم إستبعاد بقية المحققين عن القضية. هذا التكليف قد أسال حبرا كثيرا نظرا لأن البعض قد إتهم "بروك" بمحاباة صديقه المبتدئ "بوتملي" لينال المكتب الذي أسسه المدعي العام و يتكون من جملة من حلفائه و أنصاره المقربين فضل حل لغز أعتى قاتل متسلسل بعد "جاك السفاح"، متجاهلا جهود كل المحققين الذين عملوا على القضية منذ بدايتها و الذين يتمتعون بخبرة تخولهم للتعامل مع قاتل متسلسل كـ"سفاح بوسطن".
و لكن يبدو بأن "سفاح بوسطن" الذي أرق المدينة بأكملها لسنتين كاملتين قد قرر أن يكشف أوراقه كاملة بسهولة أمام المحقق "بوتملي"، فإعترف بتفاصيل جرائمه البشعة كلها و دون مقاومة أو حتى مراوغة. قضى "السفاح" ساعات طويلة في سرد وقائع كل جريمة على حدة و مجيبا عن مختلف الأسئلة التي طرحها عليه المحقق.
كان "دي سالفو"، كما وصفه بعض الحاضرين، هادئا و لطيفا في رده على الأسئلة بطريقة أثارت دهشتهم، إذ بدا و كأنه يتحدث عن شخص آخر غيره، و لم يبدي أي تفاعل جسدي، على مستوى ملامح وجهه أو نبرة صوته تتوافق مع ما يسرده من أحداث و هو أمر أثار حيرة بعض المحققين الذين لم يقنعهم إعتراف "ألبرت" منذ البداية.
إستمر إستجواب "سفاح بوسطن" بضعة أسابيع أسفرت عن تقرير من 2000 صفحة و خمسين ساعة من الأشرطة المسجلة تحمل إعترافات دقيقة و مفصلة عن جرائم الخنق إضافة إلى إعتراف "دي سالفو" بمحاولة قتل فتاة، و لكنه عدل في اللحظة الأخيرة عندما رأى نفسه في مرآة مقابلة، و علل ذلك بأنه تذكر والده فأخذ بالبكاء و إعتذر للفتاة و طلب منها عدم إبلاغ الشرطة.. و فعلا لم تبلغ الضحية عن الحادث حتى تم استدعاؤها للشهادة في قضية "سفاح بوسطن".!!
من هو "سفاح بوسطن"؟
ولد "ألبرت هنري ديسالفو" في الثالث من سبتمبر سنة 1931 في تشيلسي في ماسيتشوتس في الولايات المتحدة الأمريكية لأب سكير و سادي يعمل صياد سمك، وأمّ معنفة لا حول لها و لا قوّة.
و قد وجد الفتى و إخوته الخمسة الآخرين أنفسهم يشهدون كل يوم شجارات لا تقلّ حدّتها على معارك الشوارع و الحانات، حيث ينهال الأب "فرانك ديسالفو" الثمل على الدوام على زوجته "شارلوت" ضربا مبرحا، و لم يكن يكتفي ما لم يحطم بعضا من أسنانها أو يكسر أصابعها واحدا تلو الآخر على مرأى و مسمع من أبنائه المرتاعين فرقا من وحشيته و المتكومين في ركن من الغرفة خوفا من أن يكونوا ضحيته التالية. بل إن القسوة قد بلغت به أن باع جميع أطفاله للعمل في الحقول كالعبيد مقابل مبلغ لا يتعدى التسعة دولارات أنفقها كالعادة على ملذاته المحرمة، و لكن الأطفال تمكنوا من الفرار من الشاري و العودة إلى المنزل. فوجد الأب بأنّ إبنه "ألبيرت" ذي الخمسة أعوام و الوجه البرئ سيعود عليه بربح وفير، فعلّمه السرقة في سنّ مبكر و قد قبض على الفتى مرارا بتهمة النشل.
و لم يشذ سفاحنا عن القاعدة، فقد بدأت مشاكله الجنسية مبكرا، كما يرجح المختصون النفسيون الذّين درسوا حالته كـ"سفاح بوسطن" ، عندما وجد نفسه مجبرا على مشاهدة والده "فرانك" يمارس الجنس مع عاهرات كان يحضرهن دوريّا إلى منزل الأسرة .. فكانت أولى علاقاته الجنسيّة في سنّ الثامنة مع سيّدة تفوقه بعقود !
كما إعترف بأنّه قد مارس الجنس مقابل المال في طفولته المبكرة، مع فتيات و نساء و حتى رجال .. و هكذا بدأت رحلة إدمانه للجنس و الذّي سيكون سببا هامّا في تحويله إلى وحش بوسطن المرعب.
من الطبيعيّ و المحتوم لمن كانت طفولته بهذا الإنحراف أن يكبر ليصبح مراهقا مختلاّ، و خطرا بعد أن يطوّر أساليب جرائمه و تجاوزاته، فبدأ بتعذيب الحيوانات و واصل السرقة و السطو و بات أيضا يقتحم منازل النساء الوحيدات خاصة بهدف التحرش بهن و الإعتداء عليهم، و لكنّه أفلت من العقوبة نظرا لتكتّم الضحايا عمّا وقع معهن، لا تنسوا أعزائي القرّاء بأننا في أربعينات القرن الماضي و لم تكن النساء في تلك الفترة يجرؤن على التحدث عن مثل هذه التعديّات خوفا على سمعتهن! (ما أشبه اليوم بالأمس.. ترى كم من سفاح بوسطن يتجول بيننا اليوم لذات السبب؟)..
و بالرغم من جرائمه الجنسية إلاّ أنّه لم يحاكم سوى على جرائم السرقة و السطو و تمّ إرساله مرتين إلى إصلاحية الأحداث التي غادرها في المرّة الأخيرة في 17 من عمره سنة 1948، و قام بعدها و في خطوة غير متوقعة بالتطوع في الجيش الأمريكي و قضى فترة خدمته الأولى في أوروبا حيث تعرف على زوجته الألمانية، و تمّ تسريحه من الجيش قبل أن يتّم فترة الخدمة الثانية بسبب تحرشه جنسيّا بفتاة لم تتعدى الـ 9 من عمرها!
و هنا بدأت مرحلة جديدة من حياة "ألبرت دي سالفو" الإجراميّة فقام بأوّل سلسلة جرائم جنسيّة عرفت بـ"جرائم رجل القياسات" حيث إنتحل "دي سالفو" شخصيّة مندوب شركة لتوظيف عارضات الأزياء و كان يزور بيوت النساء و خاصة الوحيدات منهن و يغرقهن بالكلام المعسول و الوعود الخيالية حتى يتجردن من ملابسهن و يسهل عليه الإعتداء عليهن.. و يبدو بأنّ الحظّ كان حليف "ديسالفو" كالعادة، فقد إمتنعت كلّ ضحاياه عن تقديم شكوى ضدّه لنفس السبب أعلاه، أو ربّما هو بارع في إنتقائهن.. من يعلم؟
و إنتهت جرائم "رجل القياسات" بزج المجرم في السجن بتهم السرقة و السطو كالعادة، و قضى 11 شهرا ثمّ أطلق سراحه ليبدأ مباشرة سلسلة ثانية من الجرائم الجنسية عرفت بـ "إعتداءات الرجل الأخضر" نسبة إلى بذلته الخضراء التّي إستعملها للإيقاع بضحاياه، حيث يدّعي بأنه عامل صيانة إحدى شركات الخدمات المعروفة.. يبدو بأنّ "دي سالفو" مجرم نشيط لا يضيع وقته، و لكن كما يقال "ما في كلّ مرة تسلم الجرّة"!
المفضلات